مصر فى حالة عدم يقين

Home / مقالاتي في الصحف المصريه / مصر فى حالة عدم يقين
مصر فى حالة عدم يقين

مصر فى حالة عدم يقين

الجمعة 15-06-2012

 

د:خليل فاضل

الجمعة 15-06-2012

أكثر الأمور مدعاة للحيرة هى تلك التى تحمل معنيين أو تدفعك للإحساس بمشاعر متناقضة تجاه الشىء أو الشخص نفسهما، أهمها «الحب والكره»، «الرفض والقبول».. خاصة لعزيز كأحد الوالدين، وهذا ما حدث بالضبط لثورة 25 يناير 2011، صار بعض الناس، حتى من هؤلاء الذين شاركوا فيها وساهموا فى إشعالها، لديهم نوع من الإحساس الدفين بالالتباس، الذى نرى أنهم شاركوا فى صنعه منذ اللحظة الأولى بالتخلى عن طهارة الثوار ونبل أهدافهم والدخول إلى الغرف المغلقة، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن جموع الناس «الجالسين على الكنبة» يثرثرون أو يتسلون فى ملل بتغيير المحطات التليفزيونية، فيما يسمى «إدمان الريموت»، الذى يقابله إدمان الظهور على الشاشة الصغيرة، والتفنن بالحديث وعلو الصوت والمغالاة، بل وإدمان الكتابة فى أكثر من مطبوعة، والسعى إلى كاميرات الصحفيين، عشقاً ومرضاً.

لكن ونحن على أعتاب الاختيار الأصعب فى تاريخنا، نبدو كالضفدع فى الأرض الخراب، يلهث ساعياً إلى الوحل، أو كالهارب من المقلاة إلى النار، تذكرت كتاب «الأقدام العارية» للراحل طاهر عبدالحكيم، الذى يتحدث فيه عن تجربته فى سجن الواحات إبان الحكم الناصرى، والأقدام العارية هى للمساجين السياسيين، والتى كان يحلو لزبانية عبدالناصر ضربها بالفلكة، وسلخها بإجبارها على السير على الرمضاء، وكان هؤلاء الجلادون أنفسهم، الذين نحن أمام سلالتهم، يضربون المناضلين السياسيين بالعصى على رؤوسهم، إمعاناً فى ضرب مركز الفكر والتفكير، عقدة النقص لدى ذوى الأحذية الغليظة والأجساد الضخمة، الكارهين للإبداع وللحرية وللديمقراطية والمرسخين لحكم الضبط والربط والهيمنة والاستحواذ والاحتفاظ بالوطن كوديعة قد تتبخر فى حرب أو فى صراع.

الآن نحن أمام «الأقدام الباردة».. بمعنى أننا شديدو الإحساس بالحرارة فى جميع أنحاء الجسد المصرى، وأقدامنا باردة كالرصاص، كالثلج، قلوبنا تنتفض وأرجلنا ترتعش، إنها حالة عدم اليقين المصرى، نحن نجلس على حافة السور، ريح تدفعنا هنا، وعاصفة تسقطنا هناك، مشاعر متناقضة، هذا أم ذاك، كلام هذا معسول، وكلام ذاك متناقض.. والاختيار الثالث ليس حلاً، لكنه موقف «المقاطعة» أو «إبطال الصوت»، وهل يصب هذا فى مصلحة الثورة، أم مكسب لظل البائد الأنيق أم لدولة الخلافة الغامضة؟!

عدم اليقين شعورٌ وإحساس إنسانى سقيم، سخيف، طعمه مرّ، نبلع معه الحنظل والسكر، نأكل اللحم النيئ مع العسل، نرى إيجابيات ثورتنا فى الهواء الطلق تذروها الرياح كحبوب اللقاح، لا تحط على مياسم لتنبت أزهاراً وثماراً، والسلبيات تتراكم فى رحم التجربة، والثورة بالفعل مستمرة، ومازالت حُبلى.. ومازالت تنمو وتتطور حتى ولم تؤت ثمارها الآن. قد يؤدى هذا بالفعل إلى الاستبعاد، الانسحاب، العزوف، خفوت وهج التغيير. وربما حدث هذا لدى الكثيرين بمجرد إسقاط رأس النظام، وهذا هو ما فعله المجلس العسكرى بجراحة دقيقة باستئصال مبارك وعصابته وعائلته، تمنى المجلس بعدها أن يهدأ الناس ويزول عنهم حماسهم ويفتر وينشقوا ويرتبكوا كالأم بعد الولادة، ويكتئبوا وييأسوا، كالمريض بعد الشفاء، لا شىء يشغله الآن إلا معركة البناء وضرورة اقتلاع الجذور.. ونجح المجلس العسكرى بجدارة فى ذلك، وفى المقابل فشل تماماً فى إدارة شؤون البلاد، تلك المهمة العسيرة التى أوكله إياها الرئيس السابق.

حالة عدم اليقين تلك أخطر ما فيها أنها تؤدى إلى «التسويف»: تأجيل تأسيسية الدستور 18 شهراً، تأجيل الدستور، انتخابات تبهر العالم مليئة بالعوار وبالحديث السرّى وبالصفقات المشبوهة.

يقول مارتن لوثر كنج: «أنت لست فقط مُحاسَباً على ما تقول، أنت أيضاً مُحاسبٌ على ما لم تقلْ حين كان لابد أن تقوله».

أتصور أن معظمنا قال ما لم يقله بعد فوات الأوان، وربما الأغلبية فى الأغلب لم تقل شيئاً حين كان لازم ولابد أن تقول هذا الشىء فى حينه، ليس بالضرورة فى صورة تظاهرات أو إضرابات أو صوت عالٍ، لكن قولٌ مؤثر فيه حقيقة ويقين.

المصرى لا يشعر بالراحة وسط كل هذا اللغط والتشويه ونشر الشائعة المتعمد، إذن علينا أن نحاول جاهدين فك الطلاسم وحلّ الألغاز، علينا اتخاذ قرار مصيرى بشأن الوطن، بعيداً عن مشاعر الحب والكراهية وبعيداً عن التأثيرات الإعلامية الفجّة والمذمومة، بعيداً عن التأثير بالدعاية التى تلعب على كل أوتار وأوجاع الناس دون هوادة.. هنا يبدو أمر عدم اليقين الآن كأنه فكرة زنانة، اضطراب عصابى شديد من الوسواس القهرى، يدور بين شخصين وحولهما، بعيداً تماماً عن الوطن وشؤونه الجذرية، لنا أن نتخلص من مخزون المكبوت والمقهور فى عقلنا الباطن، أن نتحرر من الماضى الكئيب، وأن نحافظ على تلك الروح المصرية غير المستقرة فى بحثها الدؤوب عن الأصالة التى حافظت عليها ضد العثمانيين والوهابيين والإنجليز والفرنسيين والتتار والمماليك والهكسوس، هذا الشعب هضم كل هؤلاء ولم يفرز بعد رؤيته المهمة جداً.

لنا بعض الصبر وبعض التأمل، لنزيح عدم اليقين بعيداً، ولنتأكد من ثباتنا ومن وقع أقدامنا، ومن تلك الريح العطِرة التى تحمل أرواح شهدائنا، نعم شهداؤنا كما قالوا لنا، وأدوا لهم تحيتهم العسكرية فى التليفزيون، وأيضاً كما قالها مبارك: «شهداؤكم».. نعم، فنحن غيرهم، ويقيننا أنهم ليسوا منا، لا يكرهوننا فحسب، لكنهم يرفضون ثوريتنا ولا يطيقونها ولا يفهمونها إطلاقاً.

المسألة إذن مسألة مصير، والبقاء للأنقى والأكثر يقيناً، والله الموفق والمستعان!

kmfadel@gmail.com