مذنب أم مجنون؟

مذنب أم مجنون؟

مذنب أم مجنون؟

الأربعاء 15-09-2010

المصرى اليوم ـ  د. خليل فاضل    ١٥/ ٩/ ٢٠١٠

يُستخدم الطب النفسى عادة فى المحاكم من أجل تثبيت دعائم ضمير المجتمع وأخلاقه العامة.

وحينما تتفق آراء الطبيب النفسى مع حيثيات القضية، فإن الطب النفسى من خلال ابنه الشرعى (الجنون)، يقدم تبريراً معقولاً يساعد المحكمة على الرأفة والحكم العادل، وحينما يريد القضاء معاقبة الطب النفسى والمتهم على حد سواء، فإن المعنيين بأمر العدالة يرون فى الطب النفسى والمتهم أصحاب هدف واحد، ألا وهو تفادى العقوبة، وبالتالى يُنظر إلى المتهم على أنه إنسان شرير، وإلى الطب النفسى كنموذج ساذج للعلم والمعرفة.

فى الحقيقة أنه لا تناقض بين الجنون والشر، بمعنى أنك إذا كنت مجنوناً لا يعنى أنك لست شريراً، والعكس بالطبع صحيح. فالبعد الأول الشر.. أو الشخصية غير السوية.

مجرد قياس لصفات غير مرغوبة مثل أن تكون عديم الأخلاق معتدياً مزعجاً وفظيعاً، من ناحية أخرى فإن الجنون لا يعنى سوى اختلال العقل والإدراك والشعور والتفكير، أى المرض العقلى.

لكن لماذا يقرن الناس مسألة الإجرام والشر بالجنون ؟

هنا أين هى مسؤولية الإنسان عما يرتكبه من أفعال، فإذا كان مرتكب الفعل الجنائى – مثلاً – مريضاً عقلياً فإنه يكون غير مسؤول عن أفعاله، أما الشرير فإنه حتما يستحق العقاب، لذلك فإن ربط الشر بالمرض العقلى يتيح توزيع اللوم بشكل يُرضى الجميع.

إن هناك آراء واجتهادات كثيرة لكنها كلها تتفق على أمر واحد، ألا وهو أن الطب النفسى والعدل كليهما – رغم قوانينهما الثابتة – يُعدَّان من أكثر الأمور إثارة للجدل واختلاف الرأى.

ومن هنا فإن القاضى المتزمت، والمحامى المتمسك بكل حرف مكتوب، والطبيب النفسى الذى يحاول تطبيق معلوماته العلمية على البشر بحرف المسطرة، سيجدون ما يختلفون عليه بشكل مطلق وحاد.

كل هؤلاء لا يمكن أن تكون آراؤهم صحيحة بشكل مُطلق. لابد أن تكون هناك رؤية خاصة لكل إنسان على حدة، ولكل حالة فى شكلها الاجتماعى، ولكل حدث فى بعده وأثره وخلفيته الاجتماعية والإنسانية.

القصة الشهيرة لسفاح يوركشاير (بيتر ساتكليف) الذى قتل عددا لا يحصى من النساء، المعروف منهن فقط ست عشرة امرأة..

أجمع استشاريو الطب النفسى على أنه مريض بفصام العقل (السكيدزوفرينيا)، والقضاة يعرفون أكثر من أى أحد أن أطباء النفس صادقون، وأن (ساتكليف) فعلا مجنون، لكن العرف الاجتماعى، والحرص على مشاعر الرأى العام، يستدعيان أن يكون المتهم مذنباً ويعاقب، لكن الطريف فى الأمر أنه بعد سنوات من سجن (ساتكليف) نُقل بأمر قضائى إلى مصحة خاصة للأمراض العقلية.

فى النهاية فإن العدالة ومؤسساتها حينما تأخذ بين جناحيها طب النفس وعلومه، فإنما تحاول قدر إمكانها تكوين ترسانة تدافع عن المجتمع وأفراده، وهناك من يشير بأصابع الاتهام إلى الطب النفسى باعتباره أحد أسباب وصول بعض الناس إلى أن يكونوا مرضى بهذا الشكل. بمعنى عدم توفيره شكلا وقائياً عملياً للناس المعرضين للإصابة والاكتفاء بعلاجهم، وكذلك بعدم توفيره فرص التأهيل، لا بأن يكون العقاب وحده وسيلة للردع. إن البيئة المحيطة بكل سلبياتها وتوحشها تؤثر بالطبع على كيمياء المخ العصبية فتولد الحماقة والقتل لدى أفراد ليس لديهم أى استعداد إجرامى مُسبق. بمعنى انبثاق شريحة جديدة من الناس يتكوّن فيها الخطر والظلم والحرمان.

وكأن كل قتل يجىء تراكماً لما قبله..

وانتهاء بفظاظة العيش وتداخل كل موبقات المجتمع، إلى الذهن المريض المعتل فى تصورات انتقامية.

إن هذا القتل الجديد يظهر بعده القاتل نادماً ممسكاً بالمصحف الشريف ومبتهلاً لله سبحانه تعالى، لا ينفك بعيداً عن ثقافتنا الحالية مشوشة الفسيفسائية (متعددة الألوان والأشكال) فاقدة الهوية، مائعة الهدف ومعتمة الرؤية؟! ثقافة مجتمعية مشطورة متداخلة متشابكة مع التعدد والتشتت، المزج والخلط بين القنوات الإباحية، الفضائيات المفتوحة، الأغانى الهابطة، الصحف الفارغة، الإخباريات المدمنة لمشاهد العنف وعذاب القبور، فأصبحنا كمجتمع وكأننا نجرى لحظياً جراحة ترقيعية لإضافة أجزاء صناعية إلى بنية المجتمع.

وحين يفحص الطبيب النفسى قاتلاً، فإن الحالة تكون واضحة ويعتمد تقريره عمّا إذا كان المجرم مصاباً بأعراض حادة وقت ارتكابه الجريمة؟

ورغم صعوبة هذا الأمر يعتمد الفحص على اختيار الدوافع، الأفعال، والإدراك لدى القاتل، وأكثر ما يزعج فى الأمر هو أن يلبس القاتل حلة الجنون من أجل تفادى العقوبة وهى مسألة يمكن حلها بالملاحظة والمتابعة المستمرة داخل السجن على مدى زمنى معقول.

ويكون الحل صعباً أيضاً فهو يتراوح ما بين العلاج داخل مستشفى خاص (أشبه بالسجن) أو العقاب.