كائنات خالية من الضوء

Home / نصوص ادبيه / كائنات خالية من الضوء

كائنات خالية من الضوء

الإثنين 28-09-2015

قصة لـ خليل فاضل

منشورة بمجموعته (شادي عبد الموجود)


صاحت المغنية، وصاح المستمعون معها:
“أحلف بسماها وبترابها،أحلف بدروبها وأبوابها،ما تغيب الشمس العربية،طول ما انا عايش فوق الدنيـــــا”
كان اللحن حماسياً للغاية، رتمه عال ودقاته قوية، جمله قصيرة، يسري مندفعاً وسط الحضور ذوي الياقات البيضاء والبذلات السوداء.
كررت المغنية الأغنية؛ فقاطعها رجل يميل إلى البدانة في منتصف العمر، وصل صوته الجهور إلى كل بقعة في القاعة الفسيحة، وكأنه يمسك ميكروفوناً خفياً، صاح:
ـ”غابت الشمس العربية، ورحمة أمي غابت، راحت وما رجعتش،
ما اعرفش أصلاً إذا كانت طلعت واللا لأ، وبعدين إيه عايش فوق الدنيا دي؟! …. أنا مش عايش يا هانم!
أنا ميّت متحسَّر ومتكسّر ومتنيّل بألف نيلة ونيلة،
أنا تحت الدنيا، تحت خط الفقر والمصحف الشريف تحت خط الفقر.
أنا اتسللت هنا لابس بدلة أبويا المرحوم. دخلت مع الخدم والسفرجية.
ما شافونيش التـُحف بتوع الأمن، الأمن البهوات همّ وجهازهم العبيط اللي بيزمر ع الفاضي … طظ فيكم كلكم!
جاء رجال كثيرون من مختلف أنحاء القاعة المكتظة بالهوانم والألماسات. حملوه وكتفوه. كان ثقيلاً علهم، لم يقاومهم. أمسك بيده وردة حمراء بلدي كانوا قد وزعوها خارج القاعة ليهديها الرجال إلى نسائهم. لم تكن لديه امرأة، ولا كلبة أو قردة أو قطة أو حتى نملة. جلجلت ضحكته في الردهة الخلفية.
عزفت الموسيقى مرة أخرى، وفي حماسة أكبر وأخطر. أعادت المغنية الكوبليه في إصرار شديد على الاستمرار، كما أن الفرقة أصرّت على أن تعزف حتى آخر وتر، دقّ الطبّال الشيك في عنف، وردد البهوات خلف المغنية:
(ما تغيب الشمس العربية …
طول ما انا عايش ………. )
لم تكتمل الجملة المغناة، توقف الحشد وكأنه في حداد، جاءهم صدى خطير تسلل من كل السمّاعات غازياً التكنولوجيا والأمن :-
(الشمس العربية غابت. غابت يا ولاد الكلب، وأنا قلتلكم. انتم مش عايشين فوق الدنيا. انتم سفلة، وبتحبوا تصدقوا نفسكم!!)
جلس الحضور على كراسيهم. أمسكوا بتذاكر الحفل. تهدّلت رؤوسهم على صدورهم، ثم غطّوا في نوم عميق.
(2)
تهدّل رأس السيدة التي ما لبثت أن بلغت الأربعين. تهدّل على صدرها. تنكس ولم ترفعه، قالت في صوت خفيض:
ـ أنا عندي اكتئاب، اكتئاب مزمن، معشق في كل حتة ف جسمي وعقلي. داخل في تجويف قلبي ومعشعش في كياني، اكتئاب وسخ ما لوش حلّ، عارف لّمّا شفت صدّام حسين وهمّ بيطلعوه من الحفرة أشعث الشعر، كإن عمره 1000 سنة ولسّه طالع من الكهف. كإنه واحد تاني استنسخوه، وبيفلّوه بالضوء وهم لابسين جوانتيات طبية بيضا عشان ما يتعدوش. صدَّام الديكتاتور الحرامي الحقير. أنا كنت باكرهه كره الموت لكن لما شفت المنظر ده، قلبي اتقبض، ووشي اسوّد. اتنزعت مني كرامتي. فتحت الشيش. دوّرت على الشمس العربية. ما لقيتهاش. وقعت على السرير وقعدت أضحك بشكل هيستيري. من ساعتها وأنا عندي الاكتئاب الوسخ ده.
(3)
قلّبت المرأة السكر في الشاي وهي واقفة كعمود الصواري في مطبخها العتيق، ندّت عنها ضحكة خفيفة وهمهمت للسكر:
ـ هوّ انت ما بتدوبش ليه يا سكر؟! … مقاوم، ولا مغشوش واللا إيـه؟!
ولم يردّ السكر. استقر في قاع الكوب الذي أشرق بلون الشاي الأحمر. ارتشفت رشفة فاقشعرّ وجهها وكأنها قد تذوقت الحنظل. كانت وحيدة. ماتت أمها وهي في الثالثة، ومات أبوها وهي في الثالثة والثلاثين. اتخطبت مرتين واتفسخت الخطوبة مرتين. طمعوا فيها الرجالة رغم تواضع أنوثتها، وقهروها النسوان رغم محاولاتها للصلح والسلام. سمعت صوتاً يناديها من غرفة النوم:
ـ يا وردة. يا وردة يا وحشة انتي فين، أنا مستنيكي!
تفزعّت وانتفضت، ثم تماسكت وصاحت بصوت عال علّه يزيدها شجاعة:
ـ مستنيني إيه. وفين؟ انت مين أصلاً؟!
ضحك الصوت ضحكة الواثق العاشق. أطلّت من جانب حيطة المطبخ على باب غرفة النوم، وجده يطلّ برأسه، يغمز لها، وقد وضع على شعره جِلّ مستورد، بدت قسمات وجهه نضرة، فاح عطره، تمهل ثم قال:
ـ مش عارفاني يا وردة؟! دا أنا عشيقك من يوم ماكنتي 3 سنين. رحتي فين؟!
مش احنا كل يوم بننام مع بعض؟!
أنا الاكتئاب يا وردة، نسيتيني واللا إيه، هاتي الشاي وتعالي.
خلعت لبس الخروج. ارتدت قميص النوم الأحمر الملعلع، وضعت أحمر الشفاه والبودرة والكحل، مشطت شعرها وتراقصت أمام المرآة، دخلت إلى الفراش البارد، تغطي نفسها وتتأوّه كامرأة مُجرّبة رغم أنه لم يمسها ذكر قط.
(4)
وقفت البنت التي في منتصف العشرينات، تحالو أن تطاول سقف الغرفة بطولها، ارتاحت على الأريكة المستطيلة ذات التطريز الخاص. شهقت وكأنها تدعو الحياة، همست:
ـ عارف؟!
ـ هه؟!
ـ أنا باحس بالذنب إذ تركت الصلاة، لكن لا أحس بالذنب إذا نمت مع رجالة؟
شقّت هدومها وصرخت، فطار طيرُ وارتفع ثم حطّ على سلك الكهرباء العاري، انتفض ألف مرّة ثم مات متخشباً.
(5)
تخشّب جسد أم شَهد والشيخ يمسك برقبتها، يصرخ في العفريت: اطلع … اطلع.
أخذها زوجها سيد إلى المستشفى.
قالت له:
ـ لزمتها إيه المصاريف دي يا سيد، دكاترة ومستشفى وشيوخ؟! والنبي ودّيني عـُمرة مولد النبي.
راحت العمرة وعادت، اشترت عروسة المولد وأكلتها، ضمّتها الأحزان والأشجان، تقلّبت بها المواجع، توترت واسودّ وجهها، قالت لزوجها:
ـ أنا يا سيد بآكل صابون!! بحاول أغسل نفسي من جوّه …
حرقت كيماويات الصابون تجاويف فمها. اختفت من عينيها البهجة. لبست العدسات اللاصقة بلون شفتشي. أطرق سيد، كتم غيظه وغضبه وقلّة حيلته.قامت لتجلس إلى جواره على الكنبة، قالت في صوت مليء بالإغراء:
ـ سيّد، هاتلي ريسيفر أشوف بيه الدنيا واتلهي فيها أحسن من أي علاج، دي هيفا بترّد الروح حتى للنسوان.
(6)
وقفت البنت على كعبيها بالحذاء العالي جداً، المدبب جداً، صاحت:
ـ آه باحبه، باموت فيه، مش وجدي أكبر مني بـ 38 سنة، طظ. الدهن في العتاقي. بيفكرني ببابا بالظبط، حتى مشيته زيٌّه، بنهرب مع بعض لشاليه عين السخنة ونعيش حياتنا، أنا عارفة أنه بينام مع كل تلميذاته تقريباً، وإنه راجل وسخ، بسّ في عينيّا زيّ السكر، نفسي نفسي، أكبّر صدري كده، وأبقى زي هيفا، لو ده حصل هآكل شهد. هاعمل شغل ما حصلش، يمكن خطيبي يرجع من العراق، مش فاهمة شغل إيه ده اللي راح له. على فكرة خطيبي ده كان بيحب صدّام حسين، وميعرفش إن أنا على علاقة بوجدي، وحتى لو عرف. رجالة معفنة وما عادش عندها نخوة.
(7)
صدحت المغنية من الراديو من خلال إذاعة مجهولة:
(……… ما تغيب الشمس العربية)
صاح الرجل الماشي في الشارع: ………. روبابيكيا!
أذن الفجر، فقامت وردة لتغتسل.
مشّط الاكتئاب النائم معها حاجبيه ثم لعّبهما في احتراف.
خبط رجال الأمن على أبواب كل الشقق، وكأنهم المسحراتية صائحين: اصح يا نايم!
قال عبده النجار:
ـ بس احنا مش في رمضان يا جماعة؟!
ضحكوا ضحكة جوفاء. قال كبيرهم:
– وبتناقش كمان يا ابن الكلب؟!
وضعوا كل السكان في البوكس.
انطلقت السيرينا مع صوت المغنية لتكمل الكوبليه:
(…….. طول ما أنا عايش فوق الدنيا).