فلسفة الصحة والمرض في مصر

فلسفة الصحة والمرض في مصر

إذا ناقشنا الصحة والمرض فى مصر فلابد وأن نلقى نظرة على أعمال فوكو الفيلسوف وعالم الاجتماع للصحة، الذى تخترق أسئلته المجال المرئى والبسيط للممارسة الطبية وللظاهرة الصحية، من خلال ربطه للحياة والمرض والمستشفى والجسد، من هنا فإن السلطة منذ عصر الملكية وحتى الآن، هى المسؤول الأوّل والوحيد عن صحة البشر وحياتهم وموتهم وولادتهم. هذا بمعنى أن السلطة الصحية أصبح لها «الحقّ فى الإماتة» والحق فى الإبقاء على قيد الحياة: (إدارة الأجساد)، (التدبير الحسابى للحياة)، (الاقتصاد السياسى للحياة).
البعد السياسى للصحّة فى مصر، بمعنى تدخل الدولة فى حياة المصريين باستراتيجيات وسياسات ومخططات حيوية، ينخرط فى آليتين رئيسيتين بحسب فوكو: الانضباطية الأولية التى تبدو كشكل للرقابة العفوية، وتظهر فى الاشتغال على الجسد كآلة بترويضه والرفع من كفاءاته، وانتزاع قواه، والنمو المتوازن لمنفعته وانقياده واندماجه فى منظومات للمراقبة فعالة واقتصادية، كل هذا قد أمنته إجراءات لسلطة تحدد «الانضباطات»، وثانيًا: تنظيمية تبدو داخل «أنظمة التأمين الصحى، والتقاعد والمعاشات. وتبدو الغاية الأساسية من خلق هذه السلطة على الحياة، هى التحكّم أوّلا فى نسبة الولادة والوفاة وتجنب الموت الذى يهدد البشر، من خلال تجنب الأمراض القاتلة وأسباب وجودها (لاحظ أن هذا الطرح لا يتضمن حوادث الطرق والقطارات فى مصر) والتى تعد من أكبر أسباب الموت والعجز، لأن الظواهر الأخرى كالولادة، ومعدّل الخصوبة والإنجاب، والأمراض تساهم بوجودها فى ضعف الإنتاج وانخفاض وقت العمل وتدنى الطاقة وارتفاع التكلفة الاقتصادية.
إن حجم المشاكل الاقتصادية والسياسية، التى تمر بها مصر منذ عقود، لا يسمح برعاية صحية كافية، والأمر لا يرتبط بكلفة العلاج فقط، وإنما بالعجز عن الإنتاج كذلك فالمريض بدون شك غير قادر على العمل، ويعالج فى بيته فى أغلب الأحوال، ويكون فى حالة إجازة مرضية ممتدة مستمرة أو متقطعة، وفى الأحوال الحرجة يدخل المستشفى، ويصبح حملاً مزدوجاً، لا ينعكس سلباً على الدولة التى تصبح ملزمة بتوفير العلاج ومكان العلاج «المستشفيات»، وأداة العلاج ووسائطه «الطبيب والأدوية والمستلزمات الطبية وأكياس الدم»، بل إنه ينعكس على الأسرة التى تعيش حالة بؤس وفقر.
ويعتقد فوكو أن الدولة استعملت الطب فى تحديث المجتمع، بفضل علمنة الصحة، ونحن نرى أنها لم تفعل ذلك بإقصاء المشايخ والدجالين، من تدبير المجال الصحى للأفراد المنومين مغناطيسيًا تجاه الإيمان المطلق أن معظم أمراضهم العضوية والنفسية ماهى إلا مس وأعمال عفاريت، نرى أن الطبيب ليس ساحراً أو شيخاً، وبالتالى فإنه لا يحتاج إلى تملك صفات الأول ولا قدرات الآخر، بل يمارس مهمته فى إطار سياسى، لا ينتظم لنفس قوانين الحقل الدينى كما حدد فوكو.
تدخلت الدولة فى مصر فى تنظيم المرض وعلاجه عبر تقنيات تجسدت فى مراسيم حكومية، وقوانين وتشريعات برلمانية، وتمثلت فى إحداث دور للحجز والمستشفيات و«الإصلاحيات»، تتخذ شكل مؤسسات للإبعاد والعلاج والإصلاح، وتشكلت كذلك من خلال ترتيب إجراءات وتدابير يمكن أن نصفها بلغة معاصرة باسم السياسات الصحية.
إن العلاقة التى تجمع الطبيب بمريضه، وبالتالى الطب بالمريض، قد تكون مبنية على العنف والإقصاء، لأن معرفة المرض والوصول إلى حقيقة الظاهرة «المرضية»، لا يقوم داخل وجهة النظر الطبية، إلا عندما يقوم الطبيب بتجريد المرض، وبالتالى إقصاء المريض من حلقة العلاج، فالطب لا يتجه نحو الجسد الملموس، نحو هذا الكل المرئى، نحو هذا الامتلاء الوضعى الذى يوجد أمامه، وأنه يتجه نحو فواصل طبيعية، نحو هفوات ومسافات تظهر سلبية، إنها العلامات التى تميز كل مريض عن الآخر كما حدد فوكو.

د.خليل فاضل من صحيفة المصري اليوم 24 يوليو 2020