انتحار الأطفال

Home / مقالاتي في الصحف المصريه / انتحار الأطفال
انتحار الأطفال

انتحار الأطفال

الأربعاء 29-09-2010

د: خليل فاضل

الأربعاء 29-09-2010

هكذا جاء الخبر صادقاً يتصدر الصفحة الأولى من («المصرى اليوم» 24/9/2010)a وذُكر أنه فعل ذلك حتى لا يذهب للمدرسة! أحمد محمد مرسى شنق نفسه بحبل يتدلى من عرق خشبى بسقف حجرة فوق السطوح، حَكَت الأم الحكاية، أنزلته ونقلته إلى المستشفى، ولم تتهم أحداً بالتسبب فى وفاته! لكننا نتهم ونعتقد أن عدم الرغبة فى عدم الذهاب إلى المدرسة (إذا كان ذلك صحيحاً) وراءه حال وأحوال (وكلها افتراضات نظرية).. جو المدرسة، تحرش أو بلطجة، مدرس مفترٍ، أو الأم نفسها، لكن أين الأب؟ هل هو منفصل، وما طبيعة جو البيت؟ هل يعانى أحمد من حالة شنْق معنوى أو جسدى سبقت شنق النفس حتى الموت، هل اعتدى عليه أحد بأى شكل فى الشارع أو الحى، مليون سؤال وسؤال.. ربما لن يصل وكيل النيابة إلى إجابة عنها؟

تُرى هل رأى أحمد جثة «عمرو» وهى مدلاة من على عامود إنارة على كوبرى قصر النيل فى التليفزيون قبل بضعة أشهر؟

هل هذه رسالة تدعونا لإعادة فتح ملف نفسية الأطفال فى مصر 2010.. هل هدَّد أحمد بالانتحار؟ كما صرح لى ولد عنده سبع سنوات ذات مرّة قائلا إنه قد ملَّ من خناقات أبويه ومن الحياة؟ هل تمنى أحمد الموت؟ هل كان مكتئباً منعزلاً، ونحن بالعافية، ندرك اكتئاب الكبار، فكيف بنا سنرصد اكتئاب الأطفال.. أم أنها حقاً رفاهية فى وطن متعب ومرهق، هل انطوى وانعزل وشال همّه فى قلبه ومات؟!

انتحار فى الطفولة له مغزى كبير، لأن المراهق الذى لم يبلغ سن الحُلم لم يعاصر الحياة بكل لوعتها وميوعتها.. عاصرها 12سنة فقط، هل كان له أصحاب؟ كيف كانت حالة أسرته المادية؟ هل تعرض لاغتصاب؟ هل شاهد الوزير أحمد زكى بدر فى التليفزيون يُصرِّح بما يصرِّح به كثيراً فخاف دون أن يفهم، أم أنه قد فهم كثيراً وكبر صغيراً؟ هل عانى من (الخُواء) رغم هيصة الانتخابات؟ هل كان يعرف باسم (خالد سعيد) وخشى أن يلقى مصيره فقال (بيدى لا بيد عمرو؟!).. هل كان هناك تواصل بين البيت والمدرسة أم أن المسألة تحصيل حاصل! مع الإنترنت والفيس بوك وملحقاته، التليفزيون الجهنمى وكل هذا الجو المشحون بالعنف والقتل والجريمة بشتى صورها حتى فى أفلام الكارتون، ذلك الذى يدخل أطفالنا الذين ولدوا فى التسعينيات إلى عالم جديد وغريب معقد ومتباين وغير متصالح لا مع نفسه ولا مع الدنيا والناس، لكن مع الموبايلات وشركاتها، مع البلوتوث وسطوته، مع الفيديو كليبات وانتقالها كالفيروس الشره.. شاهدت بأم عينى شاباً فى السابعة عشرة من عمره فى حالة جنون مرحلى استمر عدة أسابيع لمجرد أنه المُصلِّى المؤذّن المُقيم لشعائر دينه قد شاهد بالصدفة مع صديق فيلماً إباحياً، واستدعى علاجه حقناً ودواء، أعادَهُ لحالته السليمة بتعديل كيمياء مُخِّه العصبية المتوترة المتأججة والمشتعلة.

لسنا بصدد التساؤل فحسب فى حكاية أحمد، لأن التساؤلات والحكاوى فى بلدنا أصبحت أكثر عدداً من الليمون على أرصفة الشوارع.

الحكمة القديمة تقول (الوقاية خير من العلاج)، بمعنى أن ننتبه وأن نتعلم وأن نتأمل، أن نُولى أولادنا بعض الوقت، أن نُحسن الإنصات لهم، لأننا شعب تعود ألا يُنصِت، يسمَع ويُفكر فى أمور أخرى قبل إعْمال العقل والحكمة.

أن نبدأ حملة بيت بلا تليفزيون، أسبوعاً فى الشهر ويوماً فى الأسبوع، أن ندرك كُنه الأمور وعُمق الأشياء، أن نحاول قدر الإمكان الخروج من الأربعة جدارن إلى الكورنيش والحدائق العامة.. أن نسمع الموسيقى ونشاهد المسرح ونقرأ الكتب، أن نتعلم ما استطعنا مسألة (الإرشاد).. أى توجيه الأبناء لا تربيتهم برسائل المحمول ومكالمات التليفون، أن نُخرجهم من ذواتهم ونُركز على كيانهم ووجودهم، ألاّ نساعدهم على إشعال التنافس والتناحُر (قال لى تلميذ فى عمر أحمد الذى مات شنقاً أنا باحلم أكون تاجر سلاح، أنا عايز أبقى غَنى غنَى فاحش).. أن نرعاهم ونُربيهم ونوليهم أمورهم ونشركهم فى أمورنا، ألا نفسدهم بالمال الكثير والتدليل المائع، وألاّ نهملهم عاطفياً فيشبّوا بلا عاطفة وبلا حنان أو دفء يلزمهم لشحذ طاقتهم فى مواجهة الحياة الصعبة، ألاّ نتركهم للشغّالات أو الجدات أو الجيران.

تعلم معنى أن تكون أباً حقيقياً، وأن تكونى أماً رؤوماً، حتى لو كان هناك انفصال بينكما، حَدِّثا أنفسكما يومياً: هل تعامل طفلك صَح، أم أنك تُفرغ فيه شحناتك السلبية، وتريد أيها الأب أن تُعوض به نقصك وتحقق من خلاله ما فشلت فى تحقيقه سلفاً.. اسأل نفسك دائماً: ما تأثير قراراتى على طفلى؟

فلتُحب طفلك كما تريد لكن احذر أن تحوّله إلى دمية تتملكها وتُشكلها وتضعها على حِجرك حتى يصل لـ38 سنة مثلاً، فلا يعمل ولا يتزوج مثلما تلك الحالات التى تمتلئ بها العيادات النفسية.

كن جزءاً من حياة طفلك (ابنتك، ابنك) شاركهما أصدقاءهما، مدرستهما، دروسهما، ليس بمعنى أن تضحى بعملك أو بحياتك وتوهبها لهما كلية، لكى توزن الأمور بالميزان الحقيقى، الوالدية تعنى التربية، الوجود، الأخلاق، الضمير، التكوين العام للشخصية، لازم ولابدّ أن تخصص لها وقتاً ومجهوداً (مفيش حاجة اسمها أنا باشقى وباتعب وباسهر وباشتغل ليل ونهار عشان أسعدكم)، فلتكن كل قواعد البيت والأسرة واضحة ومطبقة على الجميع، لا رشوة للطفل ولا شراء لذمته ضد أحد الوالدين، لا للتلصص أو التجسس عليه، ولكن فى وضوح ترى بعينيه كل شىء وتراقب كل أمر، ولتعلم كل الأطراف أن القواعد قد تتغير طبقاً للظروف، لكن الثوابت تظل بيّنة ومُلزمة، تبنَّ استقلالية ابنك ولا تدعه يكون نسخة ماسخة منك.

أعطه الطريق وليبحث عن بوصلة الاتجاه بمساعدتك، ارمِه فى اليمّ وأنت على الشاطئ.. عيناك عليه وطوق النجاة فى يديك، فلتكن ثابتاً على موقفك لا تهتز، أو تتأرجح.. حاول ألا تكون عنيفاً بأى شكل، لأن العنف يولد العنف، فسّر له ولها قراراتك ولا تُجب (أهو كده وخلاص، كده يعنى كده، معرفش، مفيش نزول للنادى.. مثلاً).

وأخيراً عامِل طفلك باحترام، لا تصغر من شأنه ولا تحقر من وجوده ولا تشتُمه أو تسبّه أو تُجبره على عمل أشياء لا يصحّ أن يقوم بها تحت أى ظرف.

www.drfadel.net