أجيال تركت في العراء

Home / مقالاتي في الصحف المصريه / أجيال تركت في العراء
أجيال تركت في العراء

أجيال تركت في العراء

الأربعاء 23-03-2016

 

أجيال تُركت في العراء
خليل فاضل
نشر في الوفد يوم 14 – 12 – 2010

السح دح امبو.. ادي الواد لابوه.. ربما لم يخطر ببال عدوية أن للأغنية معنى عن الأب الذي ذهب ولم يعد ، راح لبلاد بره أو جوه أو داخل مبنى مؤسسته أو مصنعه أو قوالب طوبه ، وترك ابنه على الأرض يبكي.ترك ابنه عطشانا للماء والحب والتربية والحنان.. رمز لأجيال تركت في العراء والخواء يلا ظهر أو سند أو مرجعية،فشبت معوزة نفسيا، تفتقد جينات الحب الأبوي التي يؤدي عدم وجودها إلى اضطرابات كثيرة أخطرها الإدمان، لأن الإبن المدمن ببساظة بيدور على الحب والدفء والأمان في المخدر ، ويجد في تاجر المخدرات وشلة الأنس الأب المفقود، وربما كان لا شعوريا يعاقب أباه بشدة على تركه إياه.
ترى مين اللي ها يشيل الواد من الأرض؟ من الفشل من المرض من الضياع .. ومن التهلكة ويعطيه لأبيه، من سيسقيه ويربيه ويلمه ويضمه ويحضنه,؟هل هو ضابط الشرطة أم الطبيب النفسي أم العم أم الخال أم الجار؟ لن يقوم أحد مكان الأب إلا إذا توفي، فهنا سيشحذ الولد طاقته، ويستمد النور والخبرة من تجربته المحدودة أو الممتدة مع أبيه، يتسلح بها ويمضي في الحياة غير خائف.
الأب الزائر
أب عصر السوق المفتوحة ، أبو الكاش والتحويلات البنكية التلغرافية، أب عبر الفاكس والمحمول والإيميل،أب تباع أبوته وتشترى كأي سلعة، فهو قد يشتري من يحل محله بالهدية والكلمة الحسنة أو بالمال، تماشيا مع مبدأ لمن يدفع أكثر.. ما تخافوش خالكم ها يربيكم، هاسمي الولاد على إسمه واسم عيلته والبنات على اسم مراته واخواتها عرفانا بالجميل .
أب بالقطعه يمكنك التعامل معه كحبات الإسبرين، إذا داهمك صداع تتناول علبتها من فوق الرف، طبقا لمبدأ الحداثة فإن ذلك الأب يمارس أبوته دون رجولة ودون قواعد يفرضها النوع، أب مثالي لنوعية من الناس يعتقدون ان الرجل في البيت إما مالوش لازمة أو أنه جزء من مشكلة كبيرة .. ولجميع الأسباب السابقة فإن الأب الزائر العابر يمثل موجة من موجات المستقبل، يمثل أقلية لها وزن نمت بسرعة في مصر يمكن تصورها بحوالي 30 % ، ومع كل سنة تمر علينا فإن هناك أطفالا يولدون أكثر لهؤلاء الآباء.
الأب في غربته التي أصبحت فيها الوحدة والاكتئاب يؤنسانه انتزعت منه الحساسية، صار في مكانه النائي ذلك يشحذ التحيات والهمهمات، يتوحد مع مباريات كرة القدم، أو الجلوس على المقاهي تلك التي تختزل الوطن في صورة تتهشم بسرعة، أما زوجته تتغضن ملامحها وتفقد النضاره.
المشكلة إذن أن تلك الوالدية الناتجة عن الأب الزائر والأم الحاضنة لأولادها في دائرتها المغلقة، تزرع في المجتمع مفاهيم مبتورة عن الأسرة، لأن الأسرة هي التي تأسر أعضاءها إليها ولا تدعهم ينفكون عنها لا بالهجرة ولا بالشرود.
حاول أن تكون كل شيء قدر الإمكان.. أبا وصديقا وأخا وناصحا .. ضحوكا.. لاعبا.. مربيا.. معلما..إنسانا، يجب ان تكون جامعا لكل الخصال الطيبة والمهام العادية الطبيعية للحياة اليومية للبشر.
هناك ما يسمى اللمسة الذكورية، أي أن تعود طفلك عليك.. على صوتك على دفئك كرجل خاصة عندما تحمله على كتفك وينام، فأنت ترضعه الأمان والطمأنينة وتقيه شر الزمن، خاصة الذكور لأن الذكر اللي جواهم ينمو ويصح عندما تكون متواجدا اسما ورسما وحسا.
لا تكذب
قبل أن تربي أولادك تربّ أنت، بمعنى تعلم وتدرب ألا تكذب وأن تكون صريحا واضحا، وأن تعطي لكي تأخذأ وأن تبذر بذور الثقة والمسئولية قبل أن تحاسب على الصواب والخطأ.
“إذا كبر ابنك خاويه “.. القول ليس مجرد مثل، كلّ تفاعل وكل اختلاف وكل اقتراب بدءا من البيت إلى الشارع والجامع والكنيسة والمدرسة يبث حميمية جديدة، إذا طلبت من ابنك شيئا، انظر مباشرة إلى عينيه، لا تأمره وأنت تستحم، أو وأنت تأكل الشيبسي أو تتلهو بالريموت.. انظر إلى وجهه يجبك.. ” نعم يا أبي”.. إن تآزر وتلاقي العينين وحديثك إليه طلبا أو أمرا يعطي للأمر مصداقيته ( منك أنت الأب اللي خلف لا الأب الذي ريى ورعى).
الثقة المتبادلة أساس الحوار.. إذا صدقك فلن يكذب، إذا احترمك سيطيع.. إذا انهارت صورتك لأنك مش مضبوط، أو بتلف سيجارة حشيش في الصالة ، أو بتسرق كاس ويسكي أو بتتلصص على بنات الجيران، أو عنده شك فيك على الفيس بوك، أو ضبطك بتشوف أفلام بورنو على النت أو الدش ، أو سمع صوتك هامسا منخفضا ذليلا وانت بتدردش في الموبايل جوه الحمام.. فلن يكون للأبوة مكان، ولن يطيعك بل سيمشي على خطاك وسيردد متأففا: ” من شابه أباه فما ظلم”. سيتعلم ابنك من لغة جسدك من حزمك وحسمك ،وليس من سلطتك وجبروتك، كيف يكون الرجل، وستتعلم ابنتك كيف تختار رجلها وكيف ستحترم نفسها.
أب بسكليته..!
الأبوّة أنواع زي موديلات العربيات كده، فيه عربية كارو وفيه ماركات فخمة وضخمة، وفيه نص نقل، ونقل بمقطورة كمان، وفيه أب بسكليتة.. يوصل من مكان لمكان، يؤدي الغرض فقط لكنه لا يفيد ولا يزيد ولا يضيف.
( أبويا.. أبي .. دادي.. أبوى .. بابي) .. ليس المسمى هو المهم، لكن المهم هو الاهتمام والاحترام واشتراك الأم في مساندته في غيبته، لا الاستغناء عنه حتى لو حدث الطلاق ( أبغض الحلال).
ربما ولأسباب كثيرة تختلف من أسرة لأخرى قد يكون اضطراريا أن يغيب الأب أو أن يكون تواجده محدودا، وهذا مفهوم.. لكن غير المفهوم هو أن ينسحب الأب بكامل إرادته وأهليته من عملية التربية، أو أن يكون بشعا مستفزا أو متساهلا غير قادر على تأكيد ذاته وأبوته.
تلك الأمور المعوجة والمعيبة في الأب ليست جينا وراثيا يدفع به الرجل، لكنها سمات وخصال وصفات قد يكون اكتسبها من أبيه، هنا عليه أن يتذكر قول الإمام علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ” لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم فلقد خلقوا لزمان غير زمانكم).
اختر طريقك الصحيح من نفسك، أصلح من أحوالك ولا تستسلم وتتمتم قائلا: (خلاص الوقت عدى وفات) .. أو أن تفيق فجأة وتنهار.
الأمل مازال قائما طالما قامت العزيمة وصلبت الإرادة وتمكنت أنفاسها من خياشيمك.
* نقلا عن جريدة المصري اليوم