مظاهر الاكتئاب في المجتمع العربي
الخميس 25-09-2008
بقلم د. خليل فاضل المصري اليوم ـ 25/9/2008
بدلاً من أن نبحث في الظاهر (عن مظاهر) الاكتئاب عربياً فسنحاول الغوص سوياً في أعماقه (جواه)، داخل بطنه الرخوة، محاولين الفهم في إطاره العربي ونتساءل معاً هل هو حقاً (مجتمع) أم أنها (مجتمعات… عربية).
نحاول يأساً وأملاً أن نلصقها أو نوازيها كقطع البازل، لكن هذا العربي في مجتمعاته وأزماته، في غربته أوروبياً وأمريكياً كما في كل دول العالم أفريقياً وأسترالياً ونيوزيلاندياً، يعاني من تناقض وجداني خطير يتمثل في ضدين (ذاته العربية المتضخمة) أنا (كويتي)، أنا (سعودي)، أنا (غني)، (لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً)، إحساس الامتلاء لدي المغزلي العربي وإدراكه بالامتياز عن أقرانه في الشرق، وبارتباطه فرانكفونياً بالعالم الأول لغة وثقافة وهجرة!!
ذاته القوية زيفاً وإرهاباً وعمالة وسلاحاً، مقابل دونية شديدة تجاه الخواجة المتفوق وتجاه بعض أقرانه العرب حسب الحالة والموقف والتفوق العلمي وبالطبع حسب امتلاك وانتشار محطات البنزين، وتكاد المسألة برمتها تسير في طريق ذي اتجاهين: دونية تتمثل في أميته، جهله، فقره، مرضه، عجزه، قلة حيلته،
ضعفه وعدم خروجه من دائرة المستهلك لكل شيء أمريكي وصيني مروراً بتايوان وجنوب أفريقيا إلي سقفه الواطئ علمياً وعسكرياً في مقابل (اليهودي التائه) الذي أصبح راقداً في قلبه يطلع له لسانه ويغيظه كل لحظة بتفوقه وإبداعه وقدرته علي احتلال أرضه وغزو سماواته وكتم أنفاسه واحتقاره..
إذن فهل نحن أمام الاكتئاب العربي أم اكتئاب العربي أم الاكتئاب في المجتمع العربي، وفي الحقيقة أن المسألة ليست إطلاقاً لعباً بمفردات اللغة السخية، بقدر ما هي محاولة للوصول إلي المعني الدفين لعل وعسي! هل هو اكتئاب فردي أسري، حياتي، إنساني، مجتمعي، بيئي، سياسي، يغذيه القهر ويأكله الاستبداد ويفتته الظلم ويترعرع في ظل أنظمة ومترهلة وفاسدة تحكمها آلية الإنكار denial بإبداع لم يسبق له مثيل.
أعتقد أن المسألة هي كل ذلك، تقود حالاتها في أحيان كثيرة يحكمها العامل الوراثي البحت والاستعداد الجيني المتأصل، يحكمها الوعي بضررة البحث عن حلَّ ومن ثمّ يتحول هنا إلي حالات سريرية حادة تدخل المصحة، أو تعالج دون تطويع البيئة المحيطة فتظل في جوفها بذرتها الاكتئابية القبيحة والعنيدة أو تزمن وتستعصي علي الرغم من كل العلاجات والعقاقير ذات الرنين العالمي التي تتفنن في إنتاجها شركات عملاقة متعددة الجنسيات، تصوب أهدافها نحو فقراء العرب وأغنيائهم بلا تمييز ناهيك عن بعض الأطباء والمعالجين الدائرين في دورة استعمال المريض العربي كسلعة لابد من امتصاص دمها لحين الموت.
وما بين اكتئاب العربي الممتد والمتجذر من خليج أبي در إلي محيط عقبة يتقاطع ذلك مع الاكتئاب الأمريكي في تصريح نادر مدهش «غير مفاجئ» للإدارة الأمريكية «واشنطن ـ وكالات الأنباء ـ بغداد ـ محمد الأنور ـ الأهرام ـ مصر ـ ٢٢ يوليو ٢٠٠٧» باعترافها بفشلها في تسوية «الأزمة العراقية» بشكل منفرد، حيث طالبت إدارة بوش الأمم المتحدة بالقيام بدور أساسي في العراق، من ذلك إلي انتحار الجندي الأمريكي في حي الأعظمية في منتصف «تموز» شهر الثورات العربية والانتصارات العربية بعد ما ترجل من مركبته الحربية، أخرج سلاحه الناري وأطلق النار في فمه منهياً اكتئابه وحياته الخالية من أي فرحة والمغمورة بالموت والدم حتي آذانها، وفي ذلك ذكري للمواطن اليمني الذي أطلق الرصاص مردياً أمريكياً وكندياً يعملان في شركة نفطية باليمن في ساعة مختارة من ساعات المهلة النهائية التي أطلق الرئيس بوش «لا أحد غيره» ليبدأ الحرب بعدها، القاتل انتحر، ولا إمكانية لفحص قواه العقلية أو استجوابه الأمني بعد موته «فاتح عبدالسلام ـ الزمان ـ ٢٠/٣/٢٠٠٣ العدد ١٤٥٧».
وبعد القتل والانتحار اللذين ابتعدا عن الحالات الإكلينيكية البحتة نجد أنفسنا في خضم القتال، ودوران رحي الحروب التي أنهكت العربي سواء مباشرة من خلال موته وموت أبنائه فيها، أو تشردهم العبثي في أرجاء ذلك المجتمع، فها هم العراقيون حجر الزاوية في عصر الاكتئاب المعاصر دمرت حضارتهم وضاعت أقوالهم وسرقت بيوتهم ومن يعيش منهم يعيش خائفاً مرعوباً يتمني ديكتاتورية وظلم ورعب صدام فهو تائه في أزقة دول الخليج أو سوريا أو مصر أو القادرين في دول الغرب التي تستمتع وتستثمر أموالها في سلاح لمرتزقتها لمزيد من القتل والدمار والتدمير، نعتقد أن المفصل يتعلق بالهوية الأساسية للعربي المسلم وغير المسلم في العراق، لبنان، مصر، السودان، وفلسطين. شاب عراقي عمره ٢٥ سنة يهاجر مع أهله إلي القاهرة، ورغم اشتراكه الهامشي مع المقاومة وفي هذا جرأة تعارضت كلية مع أعراض الرهاب والذعر والهلع من كل شيء بما في ذلك كل آثار توتر ما بعد الصدمة ptsd ولقد جسد درامياً في المسرح النفسي العلاجي «السيكودراما» مأساته ما بين صدام وجحيم الاحتلال والحنين الشديد القاسي إلي الوطن، في آخر جلساته، ارتمي علي الشزلونج وتأمل سقف الغرفة قائلاً في أنين المتعب المثخن بالجراح (كل ما أنام علي سريري، أتأوه وأقوم منفزعاً خائفاً، أحلم ببيتنا، ونحن نخرج كأسرة بالسيارة، نحضر الأكل، يحضر أقاربنا نطالع تحركات الجيش العراقي حولنا، أبكي مكتئباً بشدة، كابوسي هو أملي وبغيتي ومقصد فرحتي، إذا نمت علي الأرض في مكان بعيد كاللاجئين نمت في هدوء وإذا عدت في فراشي عاد الكابوس الحلم الأمل الذي أعرف جيداً أنه لن يتحقق «من خلال هذا الطرح الرمزي العميق يجسد هذا الشاب العراقي مأساة وطنه وشعبه وجيله ويختصرها في حلم كابوسي هو أمل وردي، وكأنها عملية التكوين العكسي في حيلتها علي العقل القواد للقلب العاشق للوطن، فيهجر الأنباء والأخبار ويطالع قنوات فضائية غناذية لكنه لا يهرب من شريط رسائلها الـSMS وهي تنقل له وسط الطبل والزمر والرقص والأجساد العارية صور الذبح والتفجير والدماء والأشلاء وبيت العائلة الذي صار أنقاضاً مثله كمثل الوطن..