مجرم أم مجنون” من أرشيف د. خليل فاضل في الشرق الأوسط 20/5/1991″
الثلاثاء 24-05-2016
يستخدم الطب النفسي عادة في المحاكم من أجل تثبيت دعائم ضمير المجتمع و أخلاقه العامة.
و حينما تتفق آراء الطبيب النفسي مع حيثيات القضية فإن الطب النفسي من خلال ابنه الشرعى ( الجنون ) يقدم تبريراَ معقولاً يساعد المحكمة على الرأفة و الحكم العادل ، وحينما يريد القضاء معاقبة الطب النفسي و المتهم على حد السواء فإن المعنين بأمر العدالة يرون في الطب النفسي و المتهم أصحاب هدف واحد ألا و هو تفادي العقوبة، و بالتالي ينظر الى المتهم كإنسان سيء و شرير و إلى الطب النفسي كنموذج ساذج للعلم و المعرفة .
في الحقيقة إنه لا تناقض بين الجنون و الشر بمعنى أن تكون مجنوناً لا يعنى أنك لست شرير والعكس بالطبع صحيح فالبعد الأول الشر.. أو الشخصية غير السوية مجرد قياس لصفات غير مرغوبة مثل أن تكون عديم الأخلاق معتدياً مزعجاً و فظيعاً، من ناحية أخرى فإن الجنون لا يعني سوى اختلال العقل و الادراك و الشعور و التفكير، أي المرض العقلي.
لكن لماذا يقرن الناس مسألة الاجرام أو الشر بالجنون ؟
الاجابة بسيطة و تتعلق بأمر واحد ألا و هو مسئولية الإنسان عما يرتكبه من أفعال، فإذا كان مرتكب الفعل الجنائي مثلاً مريضاَ عقلياَ فإنه يكون غير مسؤول عن أفعاله، أما الشرير فإنه حتماً يستحق العقاب، و لهذا فإن ربط الشر بالمرض العقلي يتيح اللوم بشكل يرضى الجميع.
فالذي يقتل أباه لأنه رأى فيه الشيطان نتيجة ضلالات محددة فإنه فى رأى البعض من المختصين يكون معفياً من المسؤولية فيما يخص أباه فقط أما إذا قتل أباه و خرج الى الشارع و قتل مجموعة من الناس فإنه يكون غير مسؤول فى حالة قتل ابيه و مسؤول في قتله للناس، بينما يرى الكثير من المختصين أن هذا الرجل مصاب بمرض عقلي و هو مختل الادراك و الشعور في كل الأحوال و يجب أن يعفى من المسؤولية بشكل عام.. و هناك أراء و اجتهادات كثيرة لكنها كلها تتفق على شئ واحد هو أن العدل و الطب النفسي كلاهما رغم قوانينهما الثابتة من أكثر الامور إثارة للجدل و اختلاف الرأى و من هنا فإن القاضى المتزمت و المحامى المتمسك بكل حرف مكتوب و الطبيب النفسي الذى يحاول تطبيق المعلومات العلمية على البشر بحرف المسطرة. كل هؤلاء لا يمكن أن تكون أراؤهم صحيحة بشكل مطلق و لابد أن تكون هناك رؤية خاصة لكل إنسان على حدة و لكل حالة في شكلها الاجتماعي و لكل حدث فى بعده و أثره و خلفيته الاجتماعية و الإنسانية .
و القصة الشهيرة لسفاح ( يوركشاير بيتر ساتكليف ) الذى قتل عدداً لا يحصى من النساء المعروف منهن فقط ست عشرة امرأة أجمع استشاريون الطب النفسي على أنه مريض بانفصام عقلي. والقضاة يعرفون أكثر من أي أحد أن أطباء النفس صادقون و أن ( ساتكليف ) فعلاً مجنون لكن العرف الاجتماعي و الحرص على مشاعر الرأى العام يستدعي أن يكون المتهم مذنباَ و يعاقب، لكن الطريف في الأمر أنه بعد سنوات من السجن ( ساتكليف ) نقل بأمر قضائي إلى مستشفى خاص بالأمراض العقلية.
نفس الشئ بالنسبة إلى مريض مدمن مضطرب الشخصية، عدواني ، خطر على نفسه وعلى أهله وعلى المجتمع، بدون عمل، بدون رعاية، ولم تتعد فرص علاجه سوى وصف بعض العقاقير ذات التأثير النفساني، و قادت الظروف هذا المريض إلى ارتكاب فعل عدواني فما هو موقف العدالة و الطب النفسي منه فى حالة هياجة الشديد و اضطرابه و حيرته و توتره و تشويشه الذهني في وقت محدد.
هل لأنه ( شرير ) يكون مسؤولاً عن كل أفعاله و ننسى ادمانه و اضطراب شخصيتة و انخفاض ذكائه و قلة حيلته اذا رفضت العدالة تشخيص حاله المريض على أنه مختل الادراك فى لحظة ما فإن هذا الرفض يعني رفض اعتبار التلويح بالعنف يخلو من المسؤولية و التهوين منه بالمرض محاولة للتخفيف، هنا وقد يكون التلويح بالعنف مجرد حدث عادي قام به مريض مدمن مزعج محبط يبحث عن حل داخل اطار مؤسسات المجتمع المختلفة.
فى النهاية فإن العدالة و مؤسساتها حينما تأخذ بين جناحيها طب النفس و علومه فإنما تحاول قدر امكانها تكوين ترسانة مسلحة تدافع عن المجتمع و أفراده ، لكن في نفس الوقت فإن هناك من يشير بأصابع الاتهام الى الطب النفسي باعتباره أحد أسباب و صول بعض الناس الى أن يكونوا مرضى بهذا الشكل بمعنى عدم توفيره شكلاً وقائياً عملياً للناس المعرضين للاصابة و الاكتفاء بعلاجهم، و كذلك بعدم توفيره فرص التأهيل و العلاج الحقيقي بالتعاون مع المؤسسات الاجتماعية و القانونية و كل أنظمة الدولة، لا بأن يكون العقاب وحده و سيلة لردع من أساءوا إلينا جميعاَ و هم فى الحقيقة من ضحايا أخطاء المجتمع بما يحوي ذلك من بيت و أسرة و مدرسة و مستشفى و عيادة .