على مر العصور استوعب المصريون الكثير من الناس والحضارات والمستعمرين، بل وهضموهم، وفشل المستعمرون العثمانى والإنجليزى والفرنسى تحديدًا فى تغيير اللغة العربية والمحلية لدى الشارع المصرى، اللهم إلا بعض الكلمات المتناثرة هنا وهناك. لكن السوريين حالة خاصة لأنهم أهل البلد، قدموا إلى مصر من زمان وعاشوا فيها وشيدوا المصانع وأنجبوا فيها واختلطوا بأهلها وامتزجوا بطبائعهم.. أما بعد الحرب الأخيرة فى سوريا والتى يحلو للبعض حتى الآن أن يُسميها (أزمة)، حَل على الأرض الطيبة مصر، عددٌ من أبناء الأرض المعطاءة سوريا، لا نحس بوجودهم لأنهم رغم اختلاف العادات والتقاليد صاروا منا، تنشقوا هواء مصر، وصاروا جزءًا جميلًا مُنتجًا من تكوينها.
المصرى يتكون من عجين تتمازج فيه مكونات كثيرة مختلفة، تتقارب وتتناغم وتتباين، لهم لغة جسد خاصة كالتعبير بالأيدى والصياح أحيانًا، البكاء بسهولة والضحك عاليًا، الحزن الشفيف، والسماحة والفظاظة أحيانًا، تحمّل المصرى كل الحروب وكل الأوبئة وكل المتغيرات العمرانية والاقتصادية والسياسية، وهو إلى حدٍ كبير ثابت كالوتد، يتميز بـ«الانبساطية» لا «كحالة فرح»، لكن بمعنى منظومة نفسية على درجة عالية من الدقة، يختلط بسرعة مع الآخر، حيوى، مندفع أحيانًا، ومسيطر وجدانيًا على الظروف، لكن إلى حدٍ ما فقد تلك الانبساطية التلقائية.
إذا التقى بالآخر السورى، الذى استضافه فى وقتٍ عصيب، رحب به وضمّه إليه بدون عقبات، السورى بكبريائه وإتقانه لفنون الضيافة وقواعد البيع والشراء، له بصمته الخاصة فى الحياة المصرية من ملبس ومأكل ومشرب وعطور، لقد ساهموا فى تغيير ثقافة العمل فهم منذ عصور معلمون فى صناعة النسيج (الملابس، الأزرار، الخيوط وغيرها)، وماهرون فى قطاع المطاعم، واستطاعوا توفير وجبات لذيذة بأسعار فى متناول الجميع.
المصريون والسوريون يقفون على أرض واحدة، لأنهم يتشاركون اللغة والدين وثقافة الشرق الأوسط، لذلك فإن مجتمع «الشغيلة» فى مصر له احترامه، ويعتمد على ثقافة هامش الربح من أجل جذب الزبون والصبر على تساؤلاته.
امرأة سورية ذات عزة وشموخ فى الخامسة والعشرين من عمرها، تقف بزيها الحلبى فى إحدى الندوات العلمية، ثم تنخرط فى عمل تدريبى إكلينيكى، تتعلم فيه إدارة الحالة والعلاج النفسى العميق، ورسم خارطة التمكين والتدرج فى إصلاح العُطل الإنسانى، وكيفية إرشاد الأهل، امتصّت العلم وأصوله من أستاذها، نهلت من الجزء العملى تفاصيله التى ليست مدرجة بالكتب، (حبّابة) مع زملائها ومع كل من يتعامل معها، لها ابتسامة رضا، ونظرة حازمة، وخطوةٍ دؤوبة لا تمل، انصهرت فى البوتقة المصرية، دون أن تفقد خصوصيتها الثقافية، ولا جذورها القوية فى حلب، على إدراك بما يدور فى الساحة العربية.. إنها مثال يوضح كيف أن الشخصية المصرية فى صورتها كمعلم وكمعالج وكمتعالج، تضافرت بسلاسة مع الشخصية السورية معطاءة ومستقبلة، تآزرا من أجل مصلحة المُتعالج، ومن أجل استكشاف العوار بين رجل وامرأته، ولإصلاح العطب دون رفع سقف الآمال.
المصرى متميز رغم كل شىء، والسورى متميز رغم الأهوال التى مر بها- بالطبع- نحن هنا لا نعمم، إن شخصية الفرد هى التى تميز طريقة التفكير والشعور والسلوك، وطريقة التعامل وطرح الآراء ووجهات النظر التى تظهر فى التفاعل مع الآخر.. هنا تلتقى شخصية المصرى بنظيره السورى، بكل اختلافاتهما ليتضافرا ويتشاركا ولا يتنافرا إلا لمامًا، وعملا سويًا من أجل مصلحة الزبون أو المتعالج، من أجل تقديم أفضل خدمة ترضى الطرفين.
هناك أمثلة كثيرة على نجاح النموذج المصرى السورى فى العمل فى مصر، والأهم أنهما خفيفان كريشة طائر على قلب بعضهما البعض، وهذا يصب فى مصلحة زيادة الناتج المحلى.
د.خليل فاضل في صحيفة المصري اليوم